الحياة والامل


 -----الأمل الذي يولد من الرماد-------



في كل رمادٍ يظنه الناس نهاية، يختبئ جمرٌ صغير يتنفس في صمت، ينتظر أن تمتد إليه نسمة حياة. ذلك الجمر هو الأمل، لا يُرى بسهولة، لكنه حاضرٌ، عنيد، يرفض أن يموت. وكأن في قلب الإنسان قوة خفية تتحدى العدم، وتصرّ على أن تبعث المعنى من قلب الخراب.


لطالما اعتقدنا أن الانكسار ختام الطريق، وأن السقوط فصلٌ أخير، لكن الحقيقة أن الرماد ليس سوى بداية أخرى، تتهيأ لتكتب فصلاً جديدًا. فمن قلب العتمة يُولد النور، ومن تحت الركام تنهض الأرواح لتقول: ما زال في العمر متّسع للحلم، وما زال في القلب متّسع للحياة.



 ----حين ينهار الصرح ويعمّ الرماد-------



حين يسقط الإنسان في لحظة ضعف قاسية، يبدو وكأن العالم كله قد انطفأ من حوله. الجدران التي كانت تحميه تنهار فجأة، والأحلام التي عاش لأجلها تتفتت إلى شظايا متفرقة، فيغدو قلبه أشبه بمدينة غمرها الغبار. إن الانكسار لا يأتي بهدوء، بل يقتحم الروح كعاصفة تقتلع الطمأنينة من جذورها، وتترك خلفها رمادًا صامتًا.


وفي ذلك الرماد، تتجمد الخطوات ويصبح الطريق مجهولًا. يتساءل المرء: أين أذهب الآن؟ هل بقي في داخلي ما يكفي كي أستمر؟ لحظة كهذه تذيب الكبرياء، وتجعل الإنسان يرى هشاشته الحقيقية، بعيدًا عن الأقنعة التي كان يرتديها أمام الآخرين. إنها لحظة مواجهة صريحة مع الذات، لحظة يشعر فيها أن كل ما بناه قد انهار أمام عينيه.


لكن الغريب أن الصمت الذي يرافق الانكسار، رغم قسوته، يحمل سرًا دفينًا. في عمق العدم، يولد سؤال صغير يرفض أن يختفي: ألا يمكن أن يبدأ كل شيء من جديد؟ هذا السؤال قد يكون خافتًا في البداية، لكنه يكبر ببطء، كجذور تبحث عن ماء في أرض قاحلة.


وهكذا، وبينما يبدو المشهد رمادًا قاتمًا لا حياة فيه، تكون الروح في أعمق أعماقها تُحضّر لشيء لم يتوقعه العقل: بداية مختلفة، وميلاد آخر يولد من قلب النهاية.




------ ومضة النور الأولى-------


ما إن يطول ليل الانكسار حتى تبدأ خيوط ضوء خافتة تتسلل إلى الروح. قد تكون كلمة صادقة من صديق، أو ذكرى بعيدة تعيد الدفء للقلب، أو حتى دمعة صامتة تُغسل بها العين فتستعيد وضوح الرؤية. هذه الومضات الصغيرة هي بذور الأمل الأولى، تنبت في أرضٍ قاحلة وتعلن أن الحياة، مهما خذلتنا، لا تزال تمنحنا فرصة أخرى.


الأمل لا يأتي بصخب، بل يتسلل بهدوء كما تتسلل نغمة موسيقية إلى أذن مرهقة. إن ما يجعل الإنسان ينهض ليس حدثًا خارقًا دائمًا، بل تلك التفاصيل البسيطة التي توقظ داخله إحساسًا بأن ما انتهى لم يكن كل شيء. وهنا تبدأ الروح بالتماسك من جديد، وتستعيد أنفاسها واحدة تلو الأخرى.


قد يظن البعض أن الأمل هبة من الخارج، لكن حقيقته أنه ينبع من الداخل. إنه قرار بأن نمنح أنفسنا فرصة أخرى، رغم الخسارة. أن نرى في الرماد تربة خصبة لا مقبرة. وهنا، يبدأ الإنسان في إعادة صياغة حياته من جديد، بوعي أعمق وتجربة أثقل، لكنه قلب أكثر نقاء.


وهكذا، يتحول الانكسار من لعنة إلى معلم، ومن نهاية إلى مرآة تكشف لنا حقيقتنا. ندرك أن ما ظننّاه موتًا، كان في جوهره بابًا يقودنا إلى حياة أخرى، ربما أجمل، وربما أصدق.



--------من الرماد إلى الحياة-----------


حين يتشبع القلب بذلك الضوء الداخلي، يبدأ الإنسان في إعادة بناء صرحه المنهار. ليس كما كان، بل أجمل، لأن البناء هذه المرة يستند إلى الوعي لا الوهم، إلى التجربة لا العاطفة وحدها. الرماد الذي كان رمزًا للنهاية، يتحول إلى تربة تنبت منها جذور القوة.


إن من ذاق مرارة السقوط يعرف قيمة النهوض، ومن عبر ليل الانكسار يعرف معنى الفجر حين يشرق. لذلك، يولد الإنسان من جديد بوجه آخر: أكثر صلابة، أكثر نقاء، وأكثر قربًا من ذاته الحقيقية. وهنا يصبح الأمل ليس مجرد شعور، بل طريقًا، وعقيدة حياة.


الأمل لا يعدنا بأن الطريق سيكون سهلًا، لكنه يمنحنا شجاعة المضي قدمًا. إنه اليد التي ترفعنا كلما عثرنا، والنبض الذي يذكّرنا أن في داخلنا قوة أعظم من كل ما حولنا. وهكذا، يصبح الرماد قصة انتصار، لا حكاية هزيمة.



-----------ولادة النور-------------


ما حسبناه رمادًا كان في الحقيقة بذرة ضوء تنتظر لحظة الميلاد. وما ظننّاه نهاية كان في جوهره بداية تفتح لنا أفقًا أوسع. الأمل لا يمحو الجراح، لكنه يحوّلها إلى علامات طريق، تذكّرنا دائمًا أن السقوط لا يقتل، بل يعلّمنا كيف ننهض من جديد.


وهكذا، يبقى الأمل هو سرّ الإنسان الأزلي، يولد من الرماد كل مرة، ليقول لنا: ما دام في القلب نبض، فثمة حياة تستحق أن تُعاش.


بقلم لمسة روح

© جميع الحقوق محفوظة 2025

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

انثى لا ترفع الراية البيضاء

صهيل في قلبي 💕 وكتاب ولد من حلم

صباح يشبه النور حين يخجل