الفصل الخامس. تلك الأمسية التي لم تكن عادية

 


كانت الأمسية مقررة في قاعة صغيرة تابعة للمكتبة العامة، الضوء خافت والأصوات تتداخل بخفة كأنها موسيقى بعيدة.

حين دخلت، كانت نوال تجلس في الصف الأول تقلب أوراقها القديمة بابتسامة هادئة، وعمر يقف قرب المنصة يتحدث مع شابٍ لا تعرفه.

في اللحظة التي رآها فيها، توقف قليلا كمن استعاد مشهدا كان ينتظره منذ زمن.

ألقى عليها نظرة سريعة ثم تابع حديثه دون أن يُظهر ما شعر به، لكنها لاحظت اضطراب صوته للحظة قصيرة.


جلست قرب نوال التي همست قائلة.

يبدو أن ليلتك مختلفة، هناك شيء في عينيك يشبه بداية لا تشبه أي بداية.

ابتسمت وهي تحاول إخفاء ارتباكها.

ردت بهدوء. ربما لأنني بدأت أتعلم كيف لا أخاف من البداية.


صعد عمر إلى المنصة، وأعلن أن الأمسية مخصصة لقراءة نصوص عن الضوء بعد العتمة.

بدأ يقرأ بصوتٍ مائلٍ إلى الهدوء، لكنه مليء بالحياة.

كان نصه مختلفا هذه المرة، أقرب إلى الاعتراف منه إلى الكتابة الصحفية، كأنه يحكي شيئا عاشه فعلا.

قال في أحد المقاطع.

أحيانا لا نحتاج أن نرى الضوء بأعيننا، يكفينا أن نشعر به في طريقة جلوسنا، في صوت من يربت على قلوبنا، في وجودٍ بسيط يعيد ترتيب فوضانا دون أن يتكلم.


كانت تسمعه وكأن كل كلمة منه تمس شيئا في داخلها.

وحين انتهى، عمّ الصمت لثوانٍ قبل أن يصفق الحاضرون بحرارة.

اقتربت منه نوال قائلة.

كنتَ تتحدث عن الحياة كما لو أنك تراها من مكان لا يصل إليه أحد.

أجاب بابتسامة خفيفة. ربما لأننا حين نتألم نرى أبعد مما نريد.


بعد انتهاء الأمسية، اقتربت منه لتشكره على الدعوة.

لكن قبل أن تتكلم، تقدّم الشاب الذي كان يتحدث معه في البداية وقال مبتسما.

أعتقد أننا لم نتعرف رسميًا بعد، أنا سليم، كاتب جديد في الجريدة وصديق عمر.

ثم أضاف موجها كلامه إليها.

قرأت بعض نصوصك في مدونة قديمة باسم مستعار، وكنت أظن أن صاحبها رجل.

ضحكت وقالت. كثيرون ظنّوا ذلك، ربما لأن الألم حين يُكتب لا يحمل ملامح صاحبه.


منذ تلك اللحظة بدأ سليم يدخل بهدوء في دائرة الأحداث.

كان مختلفا عن عمر في طريقته، أكثر حماسة واندفاعا، لكنه يحمل صدقا نادرا في عينيه.

رأى فيها صورة لما يريد أن يكونه، وشعر أن وجودها بينهم يغيّر نبرة كل حوار.


خارج القاعة، كانت نوال تتحدث إلى رجلٍ وقف ينتظرها عند الباب.

لم تلحظه في البداية، لكنه ناداها باسمها القديم الذي لم يسمعه أحد منذ سنين.

التفتت بدهشة، وقالت بصوت متردد.

أنت؟ ظننتك في بلادٍ بعيدة.

أجاب بنبرة مفعمة بالحزن.

عدت بعد أن انتهت كل البلاد في داخلي.


كان اسمه رشيد، زوجها السابق الذي افترقا منذ أكثر من عشرين سنة.

غادرها ذات مساء دون أن يشرح، تاركًا وراءه رسالة قصيرة تقول: أحتاج إلى غيابٍ طويل لأفهم نفسي.

وها هو الآن أمامها بعد كل هذا العمر، بشعرٍ أبيض وملامح أرهقها الندم.


في تلك الليلة، اجتمع الماضي والحاضر في مكانٍ واحد.

هي واقفة تنظر إليه، وفي قلبها خليط من الذكرى والدهشة، بينما كانت بطلتنا تراقب المشهد من بعيد لا تدري إن كان اللقاء مصادفة أم درسا آخر تعدّه لها الأيام.

أما عمر فكان يقف إلى جانب سليم يتأمل ما يحدث دون أن يعرف أن ذلك اللقاء سيغير كل شيء في الأيام القادمة.


في طريق عودتها إلى المنزل، شعرت أن الحياة بدأت تتنفس بطريقة مختلفة.

كأن كل شيء يتهيأ لمرحلة جديدة، مرحلة فيها اختبار للعلاقات، وللقوة، وللصدق الداخلي الذي يربط الناس دون وعود.


في الليلة نفسها، كتبت في دفترها:

الأقدار لا تُخطئ. إنها تأتي في الوقت الذي نكون فيه مستعدين لأن نفهم، لا لأن نعود.


أما نوال، فكانت تجلس قرب النافذة تقرأ الرسائل القديمة التي احتفظت بها من رشيد.

كانت تبتسم أحيانا، وتدمع أحيانا أخرى.

وحين سألها في الهاتف في اليوم التالي إن كان بإمكانه أن يراها مجددا، لم تجبه.

قالت لنفسها. أحيانا تكون العودة أصعب من الغياب.


في الصحيفة، كان عمر وسليم يتحدثان عن الأمسية التي أصبحت حديث الناس في المدينة.

قال سليم مبتسما.

يبدو أن قصتك مع الكاتبة التي قرأت بجانبها لم تنته بعد.

ضحك عمر قائلا.

ربما لم تبدأ أصلا، لكنها تسير كما يجب، ببطء يشبه النضوج.


وفي مساءٍ آخر، اجتمعوا جميعا مجددا في المقهى الذي بدأ منه كل شيء.

هي، عمر، سليم، ونوال التي كانت أكثر هدوءا من أي وقتٍ مضى.

جلسوا يتحدثون عن الكتابة والحياة، وعن تلك الأمسية التي بدّلت فيهم شيئا لا يُقال.

كان الجو دافئا، والموسيقى خافتة، واللحظة تحمل معنى يشبه الاطمئنان.


لكن خلف هذا الهدوء، كانت الحكاية تستعد لمرحلة أخرى.

مرحلة سيُختبر فيها كل ما ظنّوه نضجا، وكل ما صدّقوه عن أنفسهم.

فالحياة، كما قالت نوال يوما، لا تمنحنا الطمأنينة إلا لتختبر بعدها مدى قدرتنا على البقاء عندما تهتز الأرض من جديد.




بقلم لمسة روح

© جميع الحقوق محفوظة 2025

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

انثى لا ترفع الراية البيضاء

صهيل في قلبي 💕 وكتاب ولد من حلم

صباح يشبه النور حين يخجل