الفصل الرابع. من حيث يبدأ التغيير

 

حين خرجت من المقهى، كان الصباح يتنفس ببطء، والمدينة تستيقظ على ضوءٍ خافت يلمع فوق الأرصفة.

كانت خطواتها مترددة لكنها ثابتة، تشعر بشيء يشبه بداية لا تعرف ملامحها بعد.

كأن لقاءها بنوال لم يكن صدفة، بل موعدا مؤجلا مع جزء من نفسها كانت قد نسيته في زوايا الأيام.


في المساء، جلست على مكتبها الصغير، وأمامها دفتـرها القديم الذي امتلأ بنصوص نصف مكتملة.

كتبت في الصفحة الأولى سطرا واحدا.

الحياة لا تعيد أحدا كما كان، لكنها تمنحنا دائما شكلا جديدا من أنفسنا.

ثم توقفت، تتأمل المعنى طويلا، وكأنها أخيرا بدأت تفهمه.


في اليوم التالي، اتصلت بها نوال تدعوها إلى لقاء أدبي صغير في مكتبة تقع عند أطراف المدينة.

ترددت قليلا ثم وافقت.

كانت المرة الأولى منذ زمن تشارك في مكان يجمع الكلمة والناس معا، بعد أن اعتادت عزلتها الطويلة.


حين وصلت، استقبلتها نوال بابتسامتها الهادئة، وقدّمتها إلى مجموعة من الكتّاب والقراء الذين اعتادوا اللقاء كل أسبوع.

بينهم شاب لم تلتفت إليه في البداية، حتى سمعته يتحدث بنبرة مألوفة.

كان عمر، الصحفي الذي كان يوما صديقا لذلك الرجل الذي ترك صمتا في حياتها.

لكنها لم تعرف بعد أن الأقدار رتبت ذلك اللقاء الجديد بعناية خفية.


جلس عمر يتحدث عن مقالته الأخيرة حول معنى الفقد، وكيف يمكن أن نحيا بعده دون أن نفقد القدرة على الحب.

كانت كلماته واقعية ومؤلمة في آن واحد، تصيب القلب بصدقها الهادئ.

حين انتهى، تبادل مع الحضور بضع كلمات، ثم التفت إليها وقال.

أظنني قرأت لكِ من قبل، أسلوبك يشبه الصمت حين يتحول إلى كتابة.

ابتسمت دون أن تجيب، وشعرت أن صوته اخترقها كما يفعل الضوء حين يدخل من نافذة مغلقة منذ زمن.


في نهاية الأمسية، خرج الجميع، وبقيت هي ونوال ترتبان الكتب على الرفوف.

قالت نوال وهي تنظر إليها بعينٍ تعرف الكثير.

الحياة يا ابنتي لا تمنحنا صدفة إلا لتفتح فينا طريقا جديدا، ربما لقاؤك به ليس عودة إلى الماضي، بل اختبار لمعنى الحاضر.

سكتت قليلا ثم أضافت.

الناس يأتون حين يحين وقتهم لا حين نريدهم.


في الأيام التالية، تكررت اللقاءات في تلك المكتبة الصغيرة.

كل مرة كانت تشعر أن المكان يمنحها شيئا جديدا من الطمأنينة.

تحدثت مع عمر أكثر، وكان الحوار بينهما يتجاوز المجاملات إلى عمقٍ غير معتاد.

تحدثا عن الكتابة، عن المدن، عن الخيبات التي تصنع وعينا، وعن الناس الذين يمرّون في حياتنا كدروس لا كأوجاع.


وفي مساءٍ ممطر، جلسا في ركن المقهى القريب من المكتبة بعد أن انصرف الجميع.

كان المطر يغسل الأرصفة كما لو أنه يكتب قصة جديدة للعالم.

قالت له بهدوء.

أتعرف، أحيانا نشعر أننا نبدأ من جديد فقط حين نتوقف عن الركض خلف ما انتهى.

نظر إليها طويلا وقال.

وربما نكتشف أننا لم نفقد أحدا، بل فقدنا أنفسنا ونحن نحاول إنقاذ الآخرين.


سكتا، وكان الصمت بينهما أبلغ من أي حوار.

كل شيء في تلك اللحظة بدا صادقا، كأن المطر يسمع نبضهما ويكتبه على الزجاج.


حين عادت إلى منزلها تلك الليلة، لم تشعر بالوحدة كما في السابق.

كانت تشعر أن هناك خيطا غير مرئي يربطها بالعالم من جديد.

كتبت في دفترها.

نحن لا نلتقي الناس عبثا، كلّ من مرّ بنا كان يحمل شيئا نحتاجه لنكمل الطريق.


أما عمر، فقد عاد إلى مكتبه في الصحيفة وبدأ يكتب مقالا جديدا بعنوان من حيث يبدأ التغيير.

كتب فيه.

أحيانا لا يحدث التغيير في لحظة كبرى، بل في لقاءٍ عابر، في كلمةٍ من غريب، في نظرةٍ تمنحك شجاعة الاستمرار.


في اليوم التالي، قرأت المقال، فابتسمت وهي تعرف دون أن يصرّح أنه كتب عنها.

لكنها لم ترد، ولم تكتب له شيئا.

أرادت أن تترك للأشياء مساحتها الطبيعية لتنضج وحدها، دون استعجال.

وفي المساء، تلقت رسالة من رقم جديد تقول.

في الأمسية القادمة، سأقرأ نصا عن الضوء الذي يعود بعد العتمة. أتمنى أن تكوني هناك.

وقتها شعرت أن الحياة بدأت تدور في اتجاهٍ آخر، لا عودة فيه إلى الوراء.


ـ

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

انثى لا ترفع الراية البيضاء

صهيل في قلبي 💕 وكتاب ولد من حلم

صباح يشبه النور حين يخجل