الفصل السابع. ما لا يُقال في العلن
لم تنم تلك الليلة.
كانت الرسالة الغامضة تضيء شاشة هاتفها كل مرة تفتحها، كأنها نداء لا يريد أن يصمت.
كلما حاولت أن تتجاهلها، أحست أن في داخلها صوتا يطالبها بأن تعرف الحقيقة مهما كانت.
كتبت رقم المرسل على ورقة صغيرة، ثم خبأتها بين دفتي دفترها القديم الذي كانت تكتب فيه بداياتها الأولى، كأنها تحفظ سراً من أسرارها الخاصة.
في الصباح، توجهت إلى الجريدة بحجة مقابلة عمر، لكنها في الحقيقة أرادت أن ترى سليم لتسأله عن الخبر القديم الذي وجده على مكتبه.
دخلت دون موعد، فوجدت سليم جالساً أمام شاشة حاسوبه يحدق في صورة بالأبيض والأسود لامرأة شابة.
قالت وهي تقترب ببطء.
من تكون؟
أجاب بصوتٍ خافت.
صحفية كانت تعمل هنا، اختفت فجأة بعد أن كشفت قضية كبيرة، قالوا إنها سافرت، وقال آخرون إنها تعرضت لحادث، لكن لا أحد عرف الحقيقة.
سكت قليلاً ثم أضاف.
اسمها ريم.
تجمدت للحظة حين سمعت الاسم، لأنه نفس الاسم الذي كان مذكوراً في الرسالة التي وصلتها قبل ساعات، في السطر الأخير منها كان توقيع صغير مكتوب بخطٍ مائل ريم.
نظرت إلى سليم بدهشة، ثم قالت.
أريد نسخة من هذا الخبر القديم، أحتاج أن أقرأه.
قال مستغرباً.
ولماذا يهمك؟
قالت.
ربما أكثر مما تتخيل.
في المساء، جلست في غرفتها تقرأ الخبر ببطء، تتابع الكلمات كمن يمشي في طريقٍ يعرف نهايته ولا يريد الوصول إليها.
كانت ريم تعمل في نفس القسم الذي كان فيه عمر منذ سنوات، وقبل اختفائها بأيام نشرت مقالاً جريئاً تحدثت فيه عن التلاعب في بعض التحقيقات الصحفية.
كان المقال سبباً في جدلٍ كبير، وبعدها بأسبوع سُجلت حادثة سير على الطريق السريع، وقيل إن الجثة لم تُعرف.
وضعت الورقة جانباً وبدأت تشعر أن الخيوط تتشابك أكثر مما ظنت.
في تلك اللحظة رن هاتفها من رقمٍ مجهول، لكنها أجابت هذه المرة دون تردد.
جاءها صوت امرأة مبحوح لكنه ثابت.
هل قرأت الخبر؟
قالت. نعم، ومن أنت؟
أجابت. لستُ مهمة، المهم أن لا تثقي بعمر كثيراً.
ثم انقطع الخط فجأة.
جلست مذهولة تحاول فهم ما يحدث، ثم قررت أن تواجه عمر بنفسها.
في اليوم التالي التقت به في مقهى صغير قرب الميناء.
كان يبدو هادئاً كعادته، لكنه حين رآها عرف من نظرتها أن الأمر جاد.
قالت بصوتٍ منخفض.
من هي ريم؟
تغيرت ملامحه قليلاً، ثم ابتسم بهدوء مصطنع.
كانت زميلة قديمة، لماذا تسألين؟
قالت بحدةٍ ناعمة.
لأن أحداً أرسل لي رسالة باسمها وقال إن الحقيقة لم تُكتب بعد.
سكت طويلاً، ثم قال بصوتٍ متعب.
بعض القصص لا تُكتب لأنها إن كُتبت تغيّر كل شيء.
قالت. وهل كنتَ جزءاً من تلك القصة؟
أجاب بعد صمتٍ ثقيل.
ربما كنتُ الشاهد الوحيد الذي بقي على قيد الذاكرة.
في تلك اللحظة دخل سليم إلى المقهى مصادفة، وحين رأى المشهد شعر أن ما يجري ليس مجرد حديث عابر.
جلس معهم بصمت، لكن عينيه كانتا تتابعان كل حركة، وكل كلمة.
بعد دقائق، خرج عمر متحججاً باتصالٍ عاجل، وبقيت هي وسليم وحدهما.
قال سليم وهو ينظر إلى الباب الذي خرج منه عمر.
أظنه يخفي أكثر مما يقول.
قالت. وأنا بدأت أصدق ذلك.
في المساء، تلقت رسالة أخرى من الرقم نفسه، هذه المرة قصيرة أكثر، لكنها كانت تحمل ما يشبه التهديد.
الحقيقة تقترب، لكن ليس الجميع مستعداً لسماعها.
جلست قرب النافذة تنظر إلى المدينة التي بدأت تغرق في أضواء الليل.
فكرت أن الحقيقة ربما ليست عن ريم وحدها، بل عنهم جميعاً.
عن تلك الخطوط الخفية التي تربط حياتهم ببعضها دون أن يعرفوا.
وفي الجريدة، كان عمر يقف في غرفة الأرشيف القديمة يفتح خزانة حديدية مهملة.
أخرج منها ملفاً أصفر كتب عليه اسم ريم.
وقف يتأمل الملف بصمتٍ طويل، ثم قال بصوتٍ مبحوح.
بعض الأسرار لا تموت، بل تنتظر الوقت المناسب لتعود.
بقلم لمسة روح
© جميع الحقوق محفوظة 2025
تعليقات