الفصل الاول 🌹الضوء الاول
كان المساء هادئا أكثر من العادة والهواء يحمل رائحة الأرض بعد غياب طويل. في أطراف المدينة حيث ينتهي ضجيج البشر ويبدأ صمت الحقول وقف رجل وامرأة في مواجهة قمر بدا وكأنه اقترب منهما عن قصد.
كانت السماء تلمع كأنها تنصت والنجوم تتناثر حول الهلال المضيء في يديه كحروف تائهة تبحث عن جملة تنتمي إليها. رفع الرجل القمر بخفة كأنه يحمل شيئا هشّا لا يريد له أن ينكسر. لم يكن الأمر سحرا بل رمزا بسيطا لحقيقة أكبر أن الضوء لا يخلق من الخارج بل من داخل القلب الذي يؤمن به.
كانت هي تقف بقربه ترتدي فستانا أبيض يرقص مع نسمة خفيفة وعيناها تحملان دهشة تشبه الأطفال حين يرون البحر لأول مرة. في ملامحها كانت ترى كل النساء اللواتي عبرن الحياة بخطوات متعبة وابتسامات كاملة رغم الشقوق. وفي ملامحه كان ظل رجل حمل العمر كحقيبة من الأسئلة لكنه ما زال يرفع وجهه للسماء بحثا عن جواب جديد.
لم يكن بينهما وعد ولا قصة حب بعد بل لحظة صدق نادرة خرجت من سياق الحياة العادية. تلك اللحظة التي تباغتك دون موعد فتعيد ترتيبك من الداخل كأنك لم تكن تعرف نفسك قبلها.
قالت وهي تنظر إلى القمر المضيء بين كفيه. كم يبدو جميلا حين نراه قريبا. لكننا ننسى أنه كان هناك منذ البداية فقط كنا ننظر في الاتجاه الخطأ.
ابتسم وقال. ربما. أو ربما كنا نحن بعيدين عن الضوء لا هو.
ساد بينهما صمت طويل لكنه لم يكن صمتا باردا. كان صمتا يعرف طريقه إلى القلب يشبه حوارا دون كلمات حيث كل نبضة جملة وكل نظرة معنى.
في تلك الليلة لم يكن أحدهما يعرف أن اللقاء العابر سيصبح فصلا جديدا في حياتهما. فكلاهما كان يعيش على حافة التعب لكن بطريقة مختلفة. هي تتعب من كثرة الإحساس وهو يتعب من كثرة الكتمان.
كانت تؤمن أن اللين لا يعني الضعف وأن الطيبة ليست سذاجة. وكان يرى أن الصبر ليس خيارا بل أسلوب نجاة من الحياة ذاتها. ومع ذلك في تلك المسافة بينهما ولد شيء يشبه الراحة. راحة أن تجد إنسانا لا يطلب منك أن تكون شيئا آخر ولا يقيسك بماضيك ولا يخاف من هدوئك.
نظر إليها للمرة الأولى نظرة كاملة كأنه يكتشف ملامحها لا بعينيه بل بقلبه. كانت تقف بخفة يداها أمامها ونور القمر ينساب على كتفيها كوشاح من ليل رقيق. وفي تلك اللحظة أدرك أنه لا يبحث عن جمال جديد بل عن سكون صادق شيء لا يصرخ لكنه يبقى.
ابتسمت وقالت. هل تصدق أن القمر يشبهنا. نصفه ظاهر للناس والنصف الآخر لا يراه إلا من يقترب.
قال. وربما ما يخفينا هو ما يجعلنا مضيئين.
مضيا في الحديث كأنهما يسيران داخل حلم واقعي تتبدل فيه الكلمات إلى مرآة للذات. كانت الليلة بداية لا تشبه أي بداية. بداية تفتح الباب على كل ما في الحياة. على الحب والخوف. على الخسارة والسكينة. على الود والخذلان. على الواقع حين يكون أكثر صدقا من الخيال.
وحين خف الضوء وسكن النسيم كان كل منهما يعلم في أعماقه أن تلك اللحظة لن تمر كغيرها. ففيها تعلما أول دروس الحياة المشتركة. أن اللقاء الحقيقي لا يحدث بين جسدين بل بين روح تبحث وصدى يجيب.
ومن هناك بدأت الحكاية.

تعليقات