الفصل الثاني 🌸ظلال الكلام
في اليوم التالي لم يكن الصباح مختلفا في مظهره لكنه بدا لهما ثقيلا بما تركته تلك الليلة في القلب. كل شيء من حولهما كان عاديا إلا الإحساس الخفي بأن شيئا تغيّر دون أن يقال.
هي استيقظت وفي داخلها شعور غامض يشبه بداية طريق جديد. لم تفكر كثيرا لكنها شعرت بأن تلك اللحظة التي جمعتها به لم تكن عابرة. كانت تكتب في دفترها الصغير جملة لم تفهم معناها تماما. بعض اللقاءات لا تحدث كي تبدأ بل كي توقظ ما كان نائما فينا.
أما هو فكان يمشي إلى عمله بخطواته المعتادة لكنه لم يستطع أن يطرد من ذهنه وجهها الهادئ تحت ضوء القمر. كان يحاول أن يقنع نفسه بأن كل ذلك مجرد صدفة جميلة لا أكثر. لكنه في أعماقه كان يعلم أن بعض الصدف ليست عابرة بل قدر متنكر في هيئة لقاء بسيط.
بدأت بينهما أحاديث صغيرة تتكرر يوما بعد يوم. مكالمات قصيرة في المساء ورسائل لا تحمل سوى كلمات قليلة لكنها كانت كافية لتفتح في القلب نوافذ لم يعرفها من قبل. كانت تسأله عن يومه ويسألها عن حالها ثم يسود بينهما صمت مريح كأن الكلام اكتمل دون أن يُقال.
في كل حديث كانا يكتشفان شيئا جديدا. هو يدهش من هدوئها ومن قدرتها على الفهم دون شرح طويل. وهي تندهش من صدقه ومن ذلك الحزن النبيل الذي يسكن صوته حين يتحدث عن الحياة. لم يكن أحدهما يحاول أن يغير الآخر بل كانا يتعلمان كيف يكون القرب دون تملك.
وفي إحدى الأمسيات حين طال حديثهما أكثر من المعتاد قالت له. يبدو أننا نتحدث عن كل شيء إلا ما نشعر به فعلا.
صمت قليلا ثم قال. ربما لأن ما نشعر به لا نجد له اسما يناسبه.
ابتسمت وقالت. أو لأننا نخاف أن نكشفه فيتغير كل شيء.
كان كلامها صادقا كعادتها. وفي تلك اللحظة أدرك أن الخوف من التسمية لا يعني إنكار الشعور بل احترامه. فبعض الأحاسيس حين تُقال تفقد صفاءها.
مرت الأيام وهما على ذلك الإيقاع الهادئ. لا وعد ولا اعتراف صريح لكن حضورا ثابتا يملأ الفراغ بينهما. صار وجودها جزءا من تفاصيل يومه وصار صوته بالنسبة لها علامة على أن العالم ما زال يحتمل اللطف.
لكن الحياة لا تترك الأشياء في حالها. بدأت التحديات الصغيرة تظهر كظل يمر ببطء على الحائط. انشغالات العمل. اختلاف المواعيد. المسافات التي تتسع بصمت دون خلاف ظاهر. كان كل منهما يدرك أن الواقع بدأ يختبر صدق ما بينهما.
في ليلة من ليالي الشتاء جلس كل واحد منهما في مكانه البعيد يفكر في الآخر. هي تنظر إلى نافذتها والمطر يطرق الزجاج وتهمس لنفسها. هل نحتاج إلى القرب دائما لنشعر أننا مع أحد. وهو يحدق في الشارع المبتل ويتذكر قولها عن القمر. نصفه لا يُرى إلا لمن يقترب.
ابتسم رغم كل شيء وشعر أن المسافة لا تقطع ما وُلد في الصمت. أدرك أن بعض العلاقات لا تحتاج إلى إعلان كي تكون حقيقية. يكفي أن تعيش في القلب بهدوء دون أن تطلب شيئا.
تلك الليلة كانت آخر الليل الذي يشبه البداية. ومن بعدها بدأت الحياة الحقيقية بما فيها من عمل ومسؤولية ومواقف تختبر ما يبقى وما يزول.
وهكذا انتهى زمن الضوء الهادئ وبدأ زمن الظلال. حيث لا يكفي النور وحده بل يجب أن نعرف كيف
نحمل عتمتنا دون أن نخسر وهجنا.
تعليقات