الفصل الثالث. 🌸وجوه تعبر الذاكرة
تلك الليلة لم تنم، كان فكرها مشغولا أكثر مما تحتمل.
حاولت أن تكتب لتُفرغ ما في داخلها، لكن الحروف كانت تتبعثر كلما لامست الورق.
قررت الخروج في الصباح إلى مكانها المفضل، مقهى صغير في شارع جانبي، كانت تذهب إليه حين تضيق بها المدينة.
هناك، جلست قرب النافذة تراقب المارة.
الوجوه كثيرة، والقصص تمشي على الأرصفة دون أن يعلم أحد ما تحمله العيون من خيبات أو أمل.
وبينما كانت تستغرق في مراقبة الناس، اقتربت منها امرأة خمسينية بابتسامة دافئة، تحمل كتبا قديمة في يدها.
سألتها إن كان المقعد المقابل شاغرا، فأشارت برأسها موافقة.
قالت المرأة بصوت يشبه المطر.
أحب الجلوس هنا، المقهى الوحيد الذي يشبه الكتب القديمة.
ابتسمت لها، وردّت بخجل. وأنا أيضا، أجد في هذا المكان راحة لا أعرف سببها.
بدأ الحديث بينهما عفويا، ثم تحول إلى عمق غير متوقّع.
كانت تلك المرأة تُدعى نوال، مدرسة متقاعدة تعيش وحيدة بعد أن سافر أبناؤها.
تحب القراءة وتكتب مذكراتها منذ سنوات، لكنها لم تُظهرها لأحد.
قالت بنبرة هادئة. كلنا نكتب لننقذ شيئا فينا من الضياع، أليس كذلك؟
تأملت كلماتها طويلا وشعرت أنها لم تسمع جملة أصدق من هذه منذ زمن.
في تلك الأثناء، كان هو يجلس في مكتبه يحاول التركيز في عمله الجديد بإحدى الصحف المحلية.
التحق بها قبل أسابيع بعد أن أقنعه صديقه عمر، وهو شاب طموح حاد الذكاء، يعمل في قسم التحقيقات.
عمر مختلف عنه تماما، لكنه وجد فيه طاقة الحياة التي فقدها منذ فترة.
كانا يجلسان لساعات يناقشان قضايا المجتمع، والكتابة، والناس، وأحيانا يتحدثان عن تلك المرأة التي غادرت بصمت.
لكن عمر لم يكن يسأل كثيرا، كان يكتفي بالاستماع ثم يقول. كل حكاية لا تُروى للنهاية تبقى تؤلم حتى بعد انتهائها.
ذات يوم جاء إلى المقهى نفسه صدفة، دون أن يعلم أنها هناك.
رآها من بعيد تجلس مع امرأة كبيرة السن تضحك بهدوء، فوقف للحظة يتأمل المشهد.
شعر أنه يرى جزءا لم يعرفه منها من قبل، الجزء الهادئ، الناضج، الذي لا يحتاج أحدا ليكتمل.
لم يقترب. فقط جلس في الطاولة الخلفية، وأخذ يراقب بصمتٍ عميق.
نوال لاحظت شروده وهي تلمح عينيه من بعيد.
همست لها قائلة. يبدو أن هناك من يعرفك هناك.
التفتت بخفة فرأته، فارتجف قلبها لحظة، لكنها تمالكت نفسها.
قالت بصوت خافت. كنا نعرف بعضنا يوما، ولم نعد نعرف.
ابتسمت نوال ابتسامة حكيمة وقالت. أحيانا لا نحتاج أن نعود، يكفينا أن نفهم ما حدث.
بعد دقائق، نهضت نوال مودعة، وتركت على الطاولة ورقة صغيرة قالت قبل أن تغادر.
اقرئيها حين تهدأ نفسك.
حين فتحتها، وجدت مكتوبا بخط أنيق.
لا تتوقفي عند من عبروا، فالحياة ما زالت تنتظرك من الجهة الأخرى.
رفعت نظرها نحو الزجاج، فلم تعد تراه هناك.
كان قد غادر المقهى بصمت كما جاء، وترك وراءه إحساسا غريبا بين الراحة والحنين.
خرجت من المقهى وهي تشعر أن شيئا جديدا بدأ في داخلها
، شيئا لا تعرف إن كان شفاءً أم بداية طريق آخر.
تعليقات