الفصل الثامن. ما يكشفه الصمت حين يطول
كان عمر واقفا في غرفة الأرشيف القديمة، والغبار يعلو الملفات كطبقة من الزمن.
فتح الملف الأصفر بيدين مرتجفتين، كأن الورق يحرق جلده.
في الداخل وجد صورا متعددة لريم.
في كل صورة كانت تبتسم بلا خوف، لكن في آخر صورة كانت نظراتها مختلفة، كأنها تراقب شيئا خلف الكاميرا.
شيئا لم يره أحد.
شيئا جعل يومها الأخير مختلفا عن كل أيامها السابقة.
في الصفحة التالية وجد تقريرا قديما بخط يدها.
كانت جملا قصيرة، لكنها تحمل ما يكفي لإرباك مدينة كاملة.
تحدثت عن تلاعب في ملفات حساسة تخص شخصيات عامة، عن وثائق اختفت فجأة، وعن تحقيق حاولت إنهاءه قبل اختفائها.
لكن في آخر سطر كتبت جملة صغيرة.
إذا حدث لي شيء، فاعلموا أن الحقيقة ليست في الحادث، بل في من نجا منه.
أغلق عمر الملف بسرعة، كأنه يخشى أن يسمع أحد تلك الكلمات، ثم خبأ الملف في حقيبة جلده وخرج من الغرفة بخطوات متوترة.
في تلك الأثناء، كانت البطلة تسير قرب البحر، تحاول تهدئة عقلها من ثقل الأفكار.
الموج كان يتكسر أمامها بلا صوت، والمدينة خلفها تبدو وكأنها تختبئ وراء ضباب خفيف.
أخرجت الورقة التي كتب عليها رقم المتصل الغامض.
كانت تفكر إن كان عليها الاتصال، أو ترك الأمور في مسارها الطبيعي، لكنها شعرت أن الصمت لا يحمي إلا ضعفاء لا يقوون على مواجهة الحقيقة.
قبل أن تتخذ قرارها، جاءها صوت نوال من خلفها.
كنت أعرف أنك هنا.
استدارت ورأت نوال تقترب منها بملامح حزينة وابتسامة لا تصل إلى عينيها.
جلستا معا على مقعد خشبي، وبقي البحر أمامهما كأنه يستمع.
قالت البطلة. نوال، هل كنت تعرفين ريم؟
ساد بينهم صمت طويل.
أطول مما ينبغي.
ثم أجابت نوال ببطء.
كنت أعرفها أكثر مما يجب.
قالت البطلة. لماذا لم تخبريني؟
أجابت نوال بصوت منخفض.
ليس كل ما نعرفه يمكن قوله في الوقت الذي نريده.
قالت البطلة. وما علاقتها بعمر؟
أجابت نوال. علاقتهم لم تكن بسيطة، لكن لا تظني أنها علاقة حب، بل كانت علاقة خوف.
قبل أن تسأل المزيد، تقدم نحوهما رجل في منتصف الثلاثينيات يحمل حقيبة صغيرة على كتفه.
كان وجهه غريبا عنهما، لكنه كان ينظر إليهما كأنه يعرفهما منذ زمن.
قال بهدوء.
أظن أن الوقت حان لتسمعوا جزءا من الحقيقة.
تبادلا نظرات حذرة.
سألته البطلة. ومن أنت؟
قال.
اسمي كمال، كنت آخر شخص تحدث مع ريم قبل اختفائها.
جلست نوال مذهولة وقالت.
ولماذا تظهر الآن؟
قال.
لأن الشخص الذي أرسل لكم الرسائل ليس ريم، بل شخص يعيش على وهم أنها ما زالت هنا.
قالت البطلة. ومن يكون؟
اقترب كمال منهما وقال بصوت خافت.
إنه شخص يعرفكم جميعا، شخص كان قربكم طوال الوقت، ولا أحد كان يشك فيه.
في هذه اللحظة رن هاتف البطلة.
كانت رسالة جديدة.
لم تكن من الرقم الغامض هذه المرة.
كانت من رقم عمر.
كتب فيها.
إذا رأيتِ كمال، لا تصدقي كل ما يقوله.
رفعت البطلة رأسها ونظرت إلى كمال الذي كان يراقبها.
ثم نظرت إلى نوال التي بدت وكأنها فهمت شيئا خطيرا في تلك اللحظة.
قالت البطلة بصوت مرتجف.
كمال، ما الذي حدث لريم حقا؟
نظر إليها طويلا، ثم قال.
الحقيقة موجودة، لكنها ليست معي وحدي، وليست عند عمر وحده، بل موزعة بين ثلاثة أشخاص.
ثم أضاف.
واثنان منهم يجلسان أمامي الآن.
سقط الكلام كصخرة ثقيلة فوق المكان.
وأحست البطلة أن الطريق الذي دخلته لم يعد طريقا يمكن الرجوع عنه بسهولة.
بقلم لمسة روح
© جميع الحقوق محفوظة 2025
تعليقات