الفصل الثالث عشر
عادت ليان إلى المدينة وهي تشعر بأن الطريق أقصر مما ينبغي. وكأن المسافة تقلصت بفعل الأفكار الثقيلة التي كانت تزدحم داخل رأسها. أمسكت حقيبة الصور بقوة. كل صورة فيها صارت علامة استفهام. كل رسالة في الصندوق الذي تركته في البيت القديم صارت بداية لشك جديد. كانت تشعر أنها واقفة فوق حافة قصة أكبر منها. قصة لم تُكتب لأجلها لكنها أصبحت داخلها رغما عنها.
في المساء جلست في غرفتها تحاول ترتيب كل شيء. أخرجت الصور ووضعتها على السرير. حاولت أن تربط بين الوجوه. بين الفتاة الصغيرة والمرأة خلفها. بين ظل في صورة وظل آخر في ذاكرتها. لكن الخطوط كانت كثيرة. والعمل على فهمها يحتاج لوقت. وعلى عكس المرات السابقة كانت تشعر أنها لا تملك ذلك الوقت.
رن هاتفها. كان الرقم مجهولا. ترددت. لكن الفضول انتصر. جاءها صوت رجل. كان صوته هادئا لكنه يحمل شيئا يشبه القسوة المدفونة. قال إنه يعرف أنها ذهبت إلى بيت ليلى. وإن هذا ليس خطأها. وإن الطريق الذي اختارته سيقودها إلى الحقيقة مهما حاول البعض إخفاءها. لم يعط اسمه. ولم يقل من أرسله. فقط قال لها أن تلتقي به غدا عند جسر قديم يطل على الوادي. ثم قطع الاتصال قبل أن تسأله أي شيء.
بينما تحاول فهم ما يحدث، دخلت أمها الغرفة. كانت خطواتها بطيئة لكن حضورها كان قويا كالعادة. جلست قربها وسألتها إن كانت على ما يرام. لم تكذب ليان عليها هذه المرة. قالت إنها اكتشفت أن السيدة عايدة تخفي عنها شيئا. وإن هناك ماضيا غريبا يلتصق بحياتهما دون أن تعرف سببه. الأم لم تتفاجأ. بل أغمضت عينيها قليلا وكأن شيئا كانت تخاف مواجهته عاد إلينا من بعيد.
قالت الأم جملة واحدة فقط. قالت إن الحقيقة ليست سهلة. وإن الماضي حين يخرج من مخبئه لا يعود كما كان. لكنه إن لم يُفتح الآن سيعود بطريقة أقسى. لم تقل شيئا آخر. تركتها وغادرت الغرفة بصمت ثقيل.
في اليوم التالي ذهبت ليان إلى الجسر في الوقت المحدد. كان المكان شبه خال. الأشجار على جانبي الطريق تتحرك مع الريح. الماء تحت الجسر يجري بصوت خافت. لم تنتظر طويلا حتى ظهر رجل يقف على الطرف الآخر من الجسر. كان الطقس باردا لكنه لم يرتجف. كان ينظر إليها مباشرة وكأنه يعرف شكلها منذ سنوات.
اقترب منها. قال إن اسمه إياد. وإنه يعرف عائلتها أكثر مما تتخيل. وإن معرفة الحقيقة لن تكون سهلة لكنها ضرورية. بدأ يتحدث عن ليلى. قال إنها كانت صديقة مقربة لأمها. وإنهما كانتا تتشاركان شيئا أكبر من الصداقة. شيئا يرتبط بحدث قديم وقع قبل سنوات طويلة. حدث أدى لاختفاء الطفلة التي ظهرت في الصور. قال إن الطفلة ليست ابنة ليلى ولا قريبة لها. وإنها كانت تحت رعاية المرأتين لسبب لم يُكشف بعد. وإن اختفاءها ترك جرحا عميقا جعل العلاقة بينهما تتصدع حتى انقطعت فجأة.
سألته ليان لماذا تخبرها بكل هذا الآن. أجاب بأن الماضي أصبح يقترب من نهايته. وأن هناك أشخاصا لديهم مصلحة في أن تظل هذه الأسرار مدفونة. لكنه قال أيضا إن ظهور الظرف الأول يعني أن اللعبة بدأت. وإن عايدة ليست العدو كما تتصور. بل جزء من الحقيقة التي حاولت حمايتها لسنوات.
قبل أن تستوعب كل ما قاله، ظهر رجل آخر على الجسر. كان يمشي بخطوات سريعة. وجهه بدا مألوفا. حين اقترب أدركت أنه الرجل الذي سأل عنها في المقهى. وقف بينهما وقال لإياد إن الوقت انتهى. وإن الحديث الآن لم يعد آمنا.
اشتد التوتر فجأة. الريح ازدادت قوة. صمت قصير خيم على المكان قبل أن يقول الرجل المجهول إن على ليان أن تتوقف عن البحث. وإن استمرارها سيعرضها للخطر. وإن بعض الطرق حين تُفتح لا يمكن إغلاقها بعد ذلك. حاول إياد منعه لكنه انسحب بسرعة تاركا الجسر في حالة صمت ثقيل.
عادت ليان إلى البيت وهي تشعر أن الأمور خرجت من يدها. لم يعد الأمر مجرد بحث عن رسائل قديمة أو صور مجهولة. صار طريقا مفتوحا نحو شيء أكبر. شيء له علاقة بعائلتها. بحياة لم تُخبرها أمها عنها. وبأسرار يتشاركها أشخاص لا تعرفهم.
في تلك الليلة اتصلت بها هاجر. قالت إن رجلا كان ينتظرها أمام المقهى وسأل عنك. وإنه ترك كلمة واحدة فقط قبل أن يرحل. كلمة قصيرة لكنها غريبة. قال لها إن الحقيقة ليست في البيت القديم. بل في البيت الذي تسكنه منذ سنوات دون أن تعرف ما يخفي.
شعرت ليان بأن العالم توقف للحظة. أن كل شيء كان أمامها طوال الوقت لكنها لم تره. أن الإجابة الأقرب ربما كانت تسكن معها. ربما بين جدران البيت. ربما في ذاكرتها نفسها.
بقلم لمسة روح
© جميع الحقوق محفوظة 2025
تعليقات