الفصل الثاني عشر
خرجت ليان من المستشفى بخطوات متسارعة. كانت حقيبة الصور تلتصق بيدها وكأنها شيء حي يخاف السقوط. لم تعد تفكر إلا بالعنوان الذي كتبته اليد المجهولة في الظرف. شعرت أن الطريق إلى ذلك البيت القديم سيغير كل شيء. ربما سيستبدل نصف ما تعرفه بنصف جديد لا تريد سماعه. وربما سيضعها أمام حقيقة كانت أمها تحاول إخفاءها منذ سنوات طويلة.
استقلت سيارة أجرة وتوارت خلف زجاجها تفكر بكل شيء. فكرت في عايدة الجالسة قرب أمها وكأن العلاقة بينهما ليست علاقة جارة بمريضة بل علاقة أعمق من حدود الحي. فكرت في اختفاء سامر. في ظهور نادين. في الرجل الذي بحث عنها في المقهى. كانت الأحداث تتحرك بسرعة غريبة كأنها جميعا اتفقت على أن تقترب نحوها في الوقت نفسه.
الطريق إلى البيت المذكور أخذها بعيدا عن ضوضاء المدينة. كانت الشوارع تضيق كلما ابتعدت. البيوت تتباعد حتى بقيت بقاياها فقط. أشجار كبيرة على جانبي الطريق. هواء بارد يضرب زجاج السيارة. شيء في هذا المكان جعل قلبها ينبض أسرع.
وصلت إلى باب بيت خشبي قديم مائل قليلا. كانت النوافذ مغلقة بستائر ثقيلة. لم يشعرها المكان بالخوف بل بارتباك يشبه الوقوف أمام ذكرى لم تُخلق بعد. دفعت الباب فصوت الخشب المهترئ رحّب بها بطريقة مرعبة قليلا.
دخلت. الغبار كان كثيفا كأن أحدا لم يدخل المكان منذ سنوات. آثار أقدام صغيرة على الأرض. ورائحة ورق قديم تملأ الممر الضيق الذي يمتد نحو غرفة في آخره. تقدمت وهي تحاول التحكم بنبضاتها. وضعت حقيبة الصور على الطاولة وفتحتها من جديد. الصور ذات الوجه الطفولي الصغير عادت تطل منها. الفتاة في الصور لها عينان حزينتان. وفي إحدى الصور كان هناك ظل امرأة خلفها. امرأة تشبه عايدة.
في زاوية الغرفة كان هناك صندوق خشبي. اقتربت منه. لم يكن مقفلا. فتحته ببطء. كان مليئا برسائل قديمة. معظمها مكتوب بخط أنثوي. بعضها ممزق. بعضها مُصفر من الزمن. فتحت واحدة. كانت موجهة إلى امرأة تحمل اسم ليلى. لم تتعرف على الاسم. لكنها تابعت القراءة. الرسالة تحدثت عن طفلة مريضة. وعن رغبة في حمايتها. وعن خوف من شخص غير معروف كان يبحث عنهما في تلك الفترة.
لم تفهم ليان هل تتعلق الرسائل بحياة عائلتها أم أنها تخص حياة أخرى مرت بهذا المكان. قبل أن تتعمق أكثر سمعت صوت حفيف خلف الباب. صوت خفيف لكنه واضح. وقفت في مكانها. لا تريد أن تتحرك ولا أن تتراجع. الباب انفتح ببطء.
دخل رجل. كان في منتصف العمر. ملامحه مجهولة. لكنه كان ينظر إليها كأنه يعرفها. كأنه انتظرها طويلا.
سألها إن كانت ليان. لم تُجب. لم تتراجع أيضا. قال لها إن بيت ليلى ليس مكانا للغريب. وإن الرسائل ليست لها. لكن وجودها هناك يعني شيئا واحدا. قال إن السيدة عايدة هي من أرسلته. وإنها أخبرته أن الوقت حان لفتح الماضي.
سألته ليان من هو. وما علاقته بعائلة أمها. لكنه لم يجب. اكتفى بأن طلب منها الجلوس. قال إن الحديث سيطول. وإن هناك أمورا يجب أن تُقال بترتيب معين. وإن الحقيقة لو قيلت دفعة واحدة قد تؤذي أكثر مما تنفع.
جلس أمامها. فتح إحدى الرسائل. قال إن ليلى كانت امرأة قوية. وإنها كانت قريبة من أم ليان قبل سنوات طويلة. وإن الطفلة في الصور ليست ابنة ليلى كما ظن الجميع. بل كانت قريبة من أم ليان نفسها. وأن هذه الطفلة اختفت في ظروف غامضة.
تجمدت ليان. شعرت أن قلبها يضرب صدرها بقوة. سألت عن هوية الطفلة. وعن سبب اختفائها. لكنه قال إن هذا الجزء ليس له أن يقوله. وإن هناك من يجب أن تتحدث معه قبل أي خطوة أخرى.
سألته من هو. قال إن اسمه نادر. وإن هذا البيت كان يوما جزءا من قصة عائلتها. وإن السيدة عايدة ليست مجرد شاهدة. بل كانت جزءا من كل شيء. وهي تحمل أسرارا لا يستطيع أحد غيرها كشفها. وأن عليها أن تواجهها قبل أن تنكشف الحقائق بطريقة لا يمكن السيطرة عليها.
وقبل أن تكمل أسئلتها خرج نادر من البيت كما دخله. بهدوء وبخطوات ثابتة وكأنه لم يكن هناك أصلا.
أغلقت ليان الصندوق. أعادت الصور إلى الحقيبة. شعرت أن الهواء صار ثقيلا. أن الماضي بدأ يمد يده إليها. أن ما كانت تعتبره حياة مستقرة مجرد غطاء هش فوق قصة لم تكن تعرف أنها ستُروى لها يوما.
خرجت من البيت. خلفها كان الباب الخشبي يتأرجح قليلا. أمامها كان الطريق مفتوحا على شيء يشبه التحول. كانت تعرف أن ما ينتظرها أكبر من الأسئلة. وأن عليها أن تواصل. لأن التراجع الآن لن يوقف الحقيقة. بل
سيجعلها أكثر إيلاما حين تعود.
بقلم لمسة روح
© جميع الحقوق محفوظة 2025
تعليقات